هل يعيد النظام العسكري الجزائري؟
مليكة بوخاري
في ظل تحولات إقليمية متسارعة وضغوط اقتصادية متصاعدة، تشير مؤشرات متجددة إلى أن الجزائر شرعت في إعادة النظر بأحد أكثر ملفاتها الخارجية تكلفة وجدلاً: دعم كيان البوليساريو الانفصالي. فقد تزامن إعلان “إعادة الهيكلة الداخلية” مع إعفاء سفير المرتزقة في الجزائر، إلى جانب تقارير محلية تؤكد تقليص الميزانية المخصصة لهذا الكيان، ما يعكس بوضوح تأثير الأزمة المالية التي تواجهها البلاد على أولوياتها الاستراتيجية.
تحول في المعادلة
تبدي الجزائر بوادر تحول لافت في أولوياتها المالية، وربما في مقاربتها السياسية كذلك، بعد عقود من الدعم السخي والمفتوح لكيان البوليساريو، جاء مشروع قانون المالية الجديد، محملا بإجراءات تقشفية وتوجهات واضحة نحو ترشيد الإنفاق، ومراجعة المخصصات الخارجية، وعلى رأسها تلك الموجهة لهذا الكيان الوهمي، خطوة توحي بأن الدولة باتت أكثر حساسية إزاء كلفة التزاماتها الإقليمية، خاصة في ظل محدودية العائد الدبلوماسي والسياسي منها، يأتي هذا التغيير وسط سياق اقتصادي داخلي معقد، يتسم بتراجع احتياطات العملة الصعبة، وتزايد النفقات الاجتماعية، في وقت يشتد فيه الضغط الشعبي وتتصاعد فيه المطالب بتحسين الخدمات والمعيشة، وإن كان هذا التحول لا يعلن رسميا، فإن المؤشرات الميدانية، من تقليص الميزانيات إلى فتور الخطاب الإعلامي، تعكس مراجعة ضمنية لمعادلة طالما وضعت خارج دائرة المساءلة.
مراجعة مكلفة
يتجاوز تقليص الدعم الموجه للبوليساريو البعد المالي البحت، ليعكس في جوهره ملامح تحول أعمق في المقاربة السياسية الجزائرية تجاه هذا الملف الشائك، بعد عقود من الإنفاق غير المشروط على مشروع لم يحقق أي اختراقات دبلوماسية تُذكر، بدأت دوائر القرار في النظام الجزائري، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية، مراجعة هادئة لكلفة هذا التموقع السياسي الطويل الأمد، فقد يفهم هذا التحوّل الصامت على أنه اعتراف ضمني بإخفاق استراتيجية الرهان الأحادي على الورقة الانفصالية، في وقت لم يعد فيه الاستمرار في هذا النهج ينسجم مع المتغيرات الإقليمية والدولية، ولا مع أولويات الداخل المتأزم اقتصاديا واجتماعيا.
تحول صامت وإشارات التراجع
لا يمكن اختزال التحول للنظام الجزائري إزاء دعم البوليساريو في زاوية براغماتية ضيقة، بل يحمل في عمقه إشارات إلى مراجعة استراتيجية أوسع، تُراعي مستجدات الداخل وموازين الخارج، بات النظام العسكري الجزائري، يواجه تحولات بنيوية في اقتصاده وضغوطا اجتماعية متزايدة، لم تعد ترى في الإنفاق على كيان يفتقر للاعتراف الدولي رهانا دبلوماسيا ذا جدوى، بل عبئا مستمرا يثقل كاهل ميزانية الدولة ويقوض فرص الاستجابة لتطلعات الشارع، ورغم غياب أي إعلان رسمي عن تغيير في الخطاب أو العقيدة السياسية، إلا أن المؤشرات العملية توحي بانحسار تدريجي في الزخم الرسمي تجاه هذا الملف، بدءا من خفض المخصصات، وصولا إلى صمت المنابر الإعلامية التي لطالما شكلت أذرعا دعائية للمشروع الانفصالي، هذا البرود غير المسبوق، في علاقة طالما نُظر إليها كأحد ثوابت السياسة الخارجية الجزائرية، قد يكون تمهيدا لتحول أعمق تفرضه ضرورات المرحلة ومحدودية الموارد.
الإنفاق ومفترق الخيارات
ما شهده النظام الجزائري اليوم لا يندرج فقط ضمن إطار إعادة ترتيب للنفقات، بل يبدو أقرب إلى بداية مراجعة سياسية هادئة، تمليها ضغوط الواقع الاقتصادي والاجتماعي، ففي ظل تراجع الموارد وتزايد المطالب الداخلية، لم يعد ممكنا الاستمرار في فصل السياسة الخارجية عن مقتضيات المساءلة الاقتصادية، ولا اعتبار التمويل السياسي غير المنتج خيارا مستداما في ميزان المصالح الوطنية، وإن استمر هذا التوجه، فإن النظام العسكري سيكون أمام خيارين لا ثالث لهما: إما الإبقاء على نمط الإنفاق الخارجي المكلف وما يرافقه من استنزاف للموارد، أو التكيّف مع التحولات الجارية، داخليا وخارجيا، عبر مراجعات قد تكون مؤلمة على المدى القصير، لكنها ضرورية لضمان توازن سياسي واقتصادي أكثر عقلانية في الأفق البعيد.
📰 اقرأ هذا المقال على Google News: اضغط هنا