جريدة الاخبار 24

الصحافة بين نبل الرسالة والتربية الإعلامية في عصر العتمة الرقمية


الصحافة بين نبل الرسالة والتربية

مليكة بوخاري

تشكل اللحظة الرقمية الراهنة واحدة من أكثر المحطات التحولية تعقيدا في مسار تطور الإعلام الحديث، إذ لم تعد التكنولوجيا أداة لتيسير إنتاج وتوزيع المعلومة فحسب، بل أصبحت قوة عميقة التأثير في تمثل الواقع، وتشكيل الرأي، وصياغة السلوك العام، تأتي أهمية هذا اللقاء الدولي المنعقد بمدينة الداخلة حول “التكامل بين صحافة الجودة والتربية على الإعلام”، باعتباره مبادرة فكرية واستراتيجية تستشرف الحاجة إلى إعادة بناء العلاقة بين الإعلام والمجتمع، في زمن باتت فيه المعلومة أكثر وفرة وأقل مصداقية.

تحدي الفوضى وصمود الصحافة المهنية
سلط يونس مجاهد، رئيس اللجنة المؤقتة لتسيير شؤون قطاع الصحافة والنشر، الضوء على الاختلالات البنيوية العميقة التي تعيشها المنظومة الإعلامية، موضحاً أن الأزمة لم تعد مقتصرة على التحديات الاقتصادية والمهنية، بل امتدت إلى تراجع منسوب الثقة وتصاعد حالة الفوضى المعرفية، وأشار إلى أن الصحافة، التي كانت تمثل تقليديا سلطة رابعة، أصبحت اليوم تواجه منافسة غير متكافئة من منصات التواصل الاجتماعي، حيث يُنتج المحتوى غير المهني ويُروَّج له بوتيرة تفوق أحيانا الجهد الصحفي الرصين. واعتبر مجاهد أن هذا الواقع أسهم في تفشي ما وصفه “بالأمية الإعلامية الجديدة”، التي لا تقتصر على ضعف التكوين الرقمي، بل تشمل فقدان القدرة على التمييز بين الحقيقة والتضليل، وبين المعالجة الموضوعية والخطاب الشعبوي.

التربية الإعلامية أساس صحافة المستقبل
أكد يونس مجاهد أن الواقع الراهن يتطلب اعتماد تصور جديد للعمل الصحفي يرتكز على التحصين الأخلاقي والاجتماعي، إلى جانب تطوير التربية الإعلامية التي يجب أن تسير موازية لمهنة الصحافة وتكملها. وأوضح أن الحديث عن صحافة ذات جودة لا يمكن أن يتحقق في مجتمع يفتقر إلى مهارات التفكير النقدي وآليات التعامل الواعي مع المحتوى الرقمي. وأضاف أن التربية الإعلامية، التي كانت تُعتبر سابقاً رفاهية فكرية، أصبحت اليوم ضرورة حتمية لضمان استمرار الإعلام كمؤسسة ديمقراطية فاعلة في خدمة المجتمع.

اهمية الوعي الإعلامي
تطرق نائب رئيس مجلس جهة الداخلة وادي الذهب مولاي بوتال لمباركي، إلى التأثيرات السلبية للأخبار الزائفة التي تتجاوز مجرد إرباك المتلقي لتصل إلى تقويض الثقة في المؤسسات والنسيج الاجتماعي. وأكد أن هذه الظاهرة تمثل جزءاً من تحديات أعمق تعكس ضعفاً في البنية التربوية، لا سيما في مواجهة الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الحديثة، ما يجعل المجتمعات أكثر عرضة للتضليل. وشدد على ضرورة ترسيخ التربية الإعلامية وبناء وعي نقدي يمكن الأفراد من التعامل بوعي ومسؤولية مع المحتوى الرقمي، بهدف حماية المجتمع وضمان تماسكه واستقراره.

الإعلام المهني للدفاع عن السيادة المغربية
اتسم اللقاء الدولي بالداخلة ببعده الدبلوماسي اللافت، من خلال مشاركة وفود إعلامية من أمريكا اللاتينية، إلى جانب حضور نوعي لإعلاميين من عدد من الدول الأوروبية، الذين عبروا عن مواقف داعمة لسيادة المغرب على وحدة أراضيه، وفي مقدمتها قضية الصحراء المغربية، في السياق الذي يتصاعد فيه استهداف السيادة الوطنية عبر حملات التضليل الإعلامي، تبرز أهمية الإعلام المهني كأداة للدفاع عن الشرعية، وتصحيح السرديات، والتصدي لمحاولات التلاعب الخارجي، وفي هذا الصدد، حذر الإعلامي البيروفي ريكاردو سانشيز من التوظيف الممنهج للإعلام المضلل للطعن في مشروعية مبادرة الحكم الذاتي، مبرزا في المقابل تنامي الدعم الدولي لهذا المقترح الواقعي وذي المصداقية.

تحديات الصحافة الحرة في وجه التضليل الدولي
تحدث الإعلامي الإسباني فرناندث أريباس بصراحة وجرأة عن التجربة المهنية التي يمر بها، مشيرا إلى حجم الضغوط والتضييق الذي يواجهه نتيجة تبنيه لخط تحريري موضوعي ومنحاز للحقيقة في تغطيته لنزاع الصحراء المغربية، مؤكدا أن هذه المعاناة ليست مجرد انتهاك لحرية التعبير في إسبانيا فقط، بل تعكس تحديات أوسع تواجه الصحافيين المستقلين عبر الحدود، حيث ترتبط المصالح السياسية والاقتصادية والإيديولوجية في محاولات السيطرة على الخطاب الإعلامي، وأشار أريباس إلى أن التضليل الإعلامي لم يعد ظاهرة محلية أو إقليمية، بل أصبح شبكة دولية معقدة تستخدم أدوات متعددة لتوجيه الرأي العام وتحريف الحقائق، ما يجعل من مهمة الصحفي المستقل أكثر صعوبة في نشر الحقيقة وتحقيق التوازن، وسلط الضوء على واقع مرير يفرض على الإعلام المهني التكاتف والصمود للحفاظ على دوره في كشف الحقائق ومواجهة الحملات المغرضة.

الحقيقة في زمن التلاشي المعرفي
تمر الساحة الإعلامية اليوم بأزمة تتجاوز حدود المهنة لتصل إلى جوهر الوعي العام، ما يستوجب استجابات شاملة تجمع بين الأبعاد القانونية، التربوية، الإعلامية، والاجتماعية. فالصحافة لا يمكن أن تصمد بمفردها أمام فيضان المعلومات الزائفة، دون وجود بنية تعليمية وتكوينية تمكن المواطن من المشاركة الواعية في صناعة الحقيقة. وفي الوقت نفسه، لا تستطيع التربية الإعلامية أن تحقق أهدافها دون الانسجام مع التحولات المستمرة في الفضاء الإعلامي الذي يعيد تشكيل الوعي المجتمعي.

الصحافة ركيزة لاستعادة التوازن المجتمعي
يمثل التكامل بين صحافة الجودة والتربية الإعلامية، الذي تم التأكيد عليه خلال لقاء الداخلة، أكثر من مجرد شعار، إذ يشكل خيارا استراتيجيا حتميا لإعادة التوازن إلى منظومة مجتمعية تعاني من فقدان بوصلة الفهم وسط صخب المنصات الرقمية وسرعة انتشار الإشاعات وهشاشة الانتباه، هذا التكامل دعوة لبناء تحالف وطني ودولي واسع للدفاع عن الحقيقة، ليس كمادة قابلة للتداول، بل كقيمة وجودية تؤسس لعقد اجتماعي جديد يُعيد التوازن للإنسان مع ذاته ويحمي المجتمع من التفكك المعرفي، ليعود الإعلام إلى مكانته كمؤسسة حيادية وفاعلة، لا مجرد أداة للضغط أو الترفيه أو الاصطفاف.


تحقق أيضا

جريدة الاخبار 24

المغرب يحقق قفزة فضائية تعيد رسم الأمن في شمال إفريقيا والساحل

المغرب يحقق قفزة فضائية تعيد رسم حكيمة القرقوري تشهد منطقة شمال إفريقيا والساحل خلال السنوات …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *