بريطانيا تؤكد دعمها للحكم الذاتي
مليكة بوخاري
أعلنت المملكة المتحدة في خطوة من شأنها إعادة رسم ملامح الصراع في شمال إفريقيا، دعمها الرسمي والواضح لمبادرة الحكم الذاتي التي تقترحها المملكة المغربية كحل نهائي لنزاع الصحراء، معتبرة إياها “الحل الأكثر واقعية ومصداقية وقابلية للتطبيق”. وقد جاء هذا الموقف على لسان وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي، خلال زيارته الرسمية إلى الرباط، ليشكّل تحولًا استراتيجيًا في سياسة لندن تجاه الملف، قاطعًا مع عقود من الحياد النسبي، ومكرّسًا انخراطًا مباشراً في دعم رؤية المغرب لحل هذا النزاع الإقليمي المزمن.
المغرب في صلب الرهان الجيوسياسي البريطاني
تأتي الخطوة البريطانية في سياق إقليمي ودولي بالغ الحساسية، يتّسم بتنامي الزخم الدولي الداعم للمقترح المغربي بشأن الصحراء، وتراجع متزايد في التأييد لمليشيا البوليساريو على الساحة الدبلوماسية. ولا يندرج هذا الموقف ضمن مسار الدعم المتنامي فحسب، بل يعكس أيضا تحولا في الرؤية الجيوسياسية البريطانية، لإعادة بناء تحالفاتها خارج الاتحاد الأوروبي، مستهدفة شركاء استراتيجيين موثوقين، ويبرز في هذا السياق المغرب باعتباره أحد أبرز الحلفاء المحتملين، لما يتمتع به من استقرار سياسي، ودور إقليمي متصاعد، وموقع جغرافي استراتيجي يؤهله ليكون بوابة عبور رئيسية نحو أفريقيا جنوب الصحراء، ما يجعله عنصرا محوريا في إعادة رسم أولويات السياسة الخارجية البريطانية في المنطقة.
زيارة مفصلية تؤسس لشراكة استراتيجية
شكلت زيارة وزير الخارجية البريطاني ديفيد لامي إلى الرباط محطة مفصلية في مسار العلاقات المغربية البريطانية، باعتبارها الأولى من نوعها منذ أكثر من عقد. لكنها لم تندرج في إطار المجاملات الدبلوماسية المعتادة، بل جاءت محمّلة برسائل سياسية واضحة، ومصحوبة بحزمة اتفاقيات اقتصادية واستثمارية تُقدّر بمليارات الجنيهات الإسترلينية، تغطي مجالات حيوية مثل البنية التحتية، والصحة، والخدمات اللوجستية، في سياق الاستعداد لتنظيم كأس العالم 2030 الذي سيجمع المغرب، إسبانيا، والبرتغال، لا تعبر هذه المشاريع فقط عن رغبة لندن في توسيع نطاق شراكتها الاقتصادية مع الرباط، بل تجسد تحولا نوعيا في طبيعة العلاقة بين البلدين، من تعاون تقليدي محدود إلى شراكة استراتيجية متكاملة الأبعاد، تستند إلى المصالح المتبادلة، وتتماشى مع التوجه البريطاني لبناء تحالفات جديدة خارج الفضاء الأوروبي.
دعم بريطاني يعكس فهما عميقا للنزاع
يحمل الإعلان البريطاني دعم مبادرة الحكم الذاتي المغربية بعدا رمزيا لافتا، إذ جاء متزامنا مع الذكرى الخمسين للمسيرة الخضراء، الحدث الوطني الذي يشكل محطة مركزية في الذاكرة الجماعية للمغاربة، ويمثل لحظة مفصلية في استرجاع السيادة على الأقاليم الجنوبية، لم يكن هذا التزامن، في نظر كثير من المتابعين، وليد الصدفة، بل اختيار محسوب يضفي على الموقف البريطاني أبعادا تتجاوز الإطار الدبلوماسي التقليدي، يكشف الموقف البريطاني الربط بالزمن السياسي له دلالته الرمزية والوطنية، وعن إدراك دقيق لحساسية الملف داخل السياق المغربي، وحرص على مخاطبة البعد التاريخي والنفسي للقضية، بما يرسخ وقع الرسالة السياسية وعمق أثرها، يبدو من خلال هذا التوقيت المدروس، أن لندن أرادت أن تبعث برسالة مفادها أن دعمها للمبادرة المغربية ليس فقط موقفا براغماتيا، بل أيضا تفهم متقدم لرمزية الصحراء في الوعي السيادي المغربي.
الاستثمار بين التحول السياسي والاقتصادي
لا يكمن ثقل الموقف البريطاني الجديد في رمزيته السياسية فحسب، بل فيما يحمله من دلالات اقتصادية وجيوسياسية عميقة، تعتبر الصحراء المغربية غنية بمواردها الطبيعية ومن ضمنها الفوسفاط، الذي يعد رافعة استراتيجية ضمن معادلات الأمن الغذائي والصناعات العالمية، وقد ظل هذا الثراء الطبيعي رهينا لنزاع سياسي عطل لعقود فرص الاستثمار المستدام، بسبب تحفظات قانونية وحسابات دبلوماسية مرتبطة بوضع الإقليم، يفتح التحول البريطاني المجال أمام رسملة اقتصادية محتملة على أسس أكثر وضوحًا، قانونيًا وسياسيًا، في إطار مقاربة تنموية تراعي مصالح السكان المحليين وتنسجم مع الشرعية الدولية.
بريطانيا تعود الى قلب التوازنات الإفريقية
اعتبرت مجلة مودرن دبلوماسي الأميركية أن إعلان لندن دعم مبادرة الحكم الذاتي المغربية لا يقتصر على بعده الدبلوماسي، بل يُجسّد تحولا جيواستراتيجيا واضح المعالم، يعيد إدراج بريطانيا ضمن المعادلة الإقليمية الحساسة الممتدة من شمال أفريقيا إلى عمق القارة. ووفق المجلة، فإن هذا التموقع الجديد يضع لندن في قلب توازنات معقدة تشمل المغرب والجزائر ومنطقة الساحل، ويمهد لعودة بريطانية أكثر فاعلية في ملفات استراتيجية طالما كانت محصورة بين قوى تقليدية منها: الولايات المتحدة، وفرنسا، والصين، وينسجم هذا التحول مع التوجه البريطاني المتسارع لإعادة تشكيل حضورها الدولي بعد “بريكست”، عبر بوابة المغرب الذي يُنظر إليه كحليف مستقر وفاعل إقليمي محوري، قادر على تسهيل النفاذ الاقتصادي والأمني إلى فضاءات أفريقيا جنوب الصحراء، في سياق تنافس متصاعد على النفوذ والمصالح في القارة.
دعم بريطاني يعيد تشكيل المعادلة
تبدو رهانات المرحلة المقبلة أكبر من أن تعزل عن سياقها الإقليمي والدولي، إذ يحمل الموقف البريطاني بعدا يتجاوز البعد الدبلوماسي التقليدي، ليرسم ملامح تحول نوعي في مقاربة ملف الصحراء المغربية، والدفع بالقضية لمرحلة جديدة، تتسع فيها رقعة الدول المؤيدة للمقترح المغربي، مقابل انكماش متزايد للدول الحاضنة للطرح الانفصالي، يستشف من هذا التحول رسالة جوهرية مفادها أن منطق الواقعية السياسية بات يفرض نفسه كخيار مركزي في التعاطي مع النزاع المفتعل في الصحراء، مدفوعا باعتبارات المصالح الجيوسياسية وتحولات الاصطفافات الدولية، غير أن هذا المنطق يظل مشروطا بمدى قدرة المبادرات المطروحة على إرساء توازن دقيق بين مقتضيات السيادة الوطنية، ومتطلبات الشرعية الدولية، وانتظارات الساكنة المحلية في التنمية والاستقرار.
📰 اقرأ هذا المقال على Google News: اضغط هنا