هل تضيء الصحافة الميدانية حقيقة؟
مليكة بوخاري
تحولت الصحافة إلى ساحة معركة حاسمة لكشف الحقيقة وسط زخم التضليل، في عالم يغمره ضجيج المعلومات المتضاربة وتنتشر فيه ظاهرة الأخبار الزائفة، حيث تواجه المؤسسات الإعلامية تحديات للنزول الميداني المباشر، ليتمكن الصحافي من التحقق من الواقع بنفسه، في هذا السياق، تبرز تجربة الصحافية الإسبانية كنموذج للصحافة الاستقصائية التي لم تكتف بتلقي الروايات المسيسة، بل غاصت في عمق الواقع، لتكشف الزيف الكامن وراء الخطابات الفضفاضة وإعادت رسم الحقيقة بكل أبعادها وتعقيداتها.
صراع الحقيقة في معركة الرواية
في زمن تطغى فيه الأجندات الإعلامية ويتفشى فيه تداول الأخبار الزائفة، لم تعد الصحافة مهنة لنقل الخبر، بل تحولت إلى ساحة معركة يخوضها الصحافيون دفاعا عن القيم المهنية وحق المواطن في الوصول إلى الحقيقة، ويعد ملف الصحراء المغربية أحد أبرز النماذج التي تتقاطع فيها الرواية الإعلامية مع الحسابات السياسية، ليصبح مسرحا لصراع مزدوج: بين التغطية الموضوعية والتضليل، وبين الصحافة الميدانية والدعاية المؤدلجة، وقد شكل اللقاء الدولي حول “صحافة الجودة والتربية على الإعلام”، المنعقد بالداخلة، مناسبة لتسليط الضوء على هذه الإشكاليات، من خلال تجربة مؤثرة للصحافية الإسبانية باتريسيا مجيد خويس، فقد كشفت مداخلتها عن الفرق الشاسع بين الخطاب الترويجي الذي تتبناه مليشيا البوليساريو وحاضنتها وراعيتها الإقليمية، وما عاينته بنفسها بين الواقع الميداني، بعيدا عن الشعارات الجاهزة والصور الموجهة، لم تكن شهادة، بل فضحت طبيعة الصراع الإعلامي حول الصحراء، وأعادت التذكير بالحاجة إلى صحافة تنطلق من الميدان تبنى على الوقائع لا على الأوهام.
كانت الصحافية الإسبانية تعد من بين المصادر الإعلامية المعتمدة في تغطية ملف الصحراء، قبل أن تدرك بنفسها حجم التضليل المنهجي الذي تعرضت له، من خلال صور نمطية تصوّر المنطقة “كساحة حرب”، تنتشر فيها القوات المسلحة في كل ركن، غير أن قرارها بالنزول إلى الميدان، بدءا من مخيمات تندوف مرورا بالأقاليم الجنوبية المغربية، غير جذريا من منظورها المهني، وأسس لنهج تحقيقي يتجاوز التلقي إلى التحقق والمعاينة، ولم تقتصر ملاحظاتها في تندوف على غياب حرية التعبير والانتهاكات الحقوقية، بل كشفت عن مظاهر فساد مستشر تغطيه شعارات إنسانية، فقد رصدت بيع مساعدات أوروبية، من ضمنها تلك القادمة من إسبانيا، في الأسواق المحلية، بما فيها مضخات مياه ومستلزمات أساسية، في وقت تحرم فيه الفئات المستحقة منها، وثقت خويس هذا الواقع الميداني، من خلال تجربتها الشخصية، وأزاحت الستار عن بعد آخر للصراع: حرب إعلامية صامتة تغذيها أطراف متعددة، من أجل إضفاء الشرعية على معاناة مفترضة وتكريس رواية الاحتلال، في مقابل واقع فعلي يبدي مؤشرات واضحة على الاستقرار، والمؤسسات المنتخبة، والتنمية المتنامية في الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية.
التضليل يفرغ القضية من إنسانيتها
تعد تجربة الصحافية تجسيدا دقيقا لنمط إعلامي سائد، لا يمكن اعتباره استثناءا، بل هو جزء من نهج أوسع يقوم على تبني خطابات غير متوازنة تجرد قضية الصحراء المغربية من أبعادها الإنسانية العميقة، وتخضعها لمنطق التسييس والدعاية بدل التناول المهني الرصين، تستخدم في الفضاء الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، أساليب دعائية ممنهجة “بروباغندا” تستهدف تشويه الحقائق في أذهان المواطن الأجنبي، من خلال تداول روايات انتقائية وشهادات لإضفاء المصداقية على خطاب الانفصال، وقد رصدت دراسات دولية معاصرة ما وصفته بـ”التكتيكات الإعلامية” التي تعتمد على توظيف انتقائي لتصريحات مسؤولين أوروبيين أو برلمانيين سابقين، في مقابل تجاهل تام للوقائع الميدانية أو للانتهاكات التي ترتكبها مليشيا “البوليساريو”، وصنيعتها، يتم إستخدام هذه التصريحات كواجهة دعائية، رغم افتقارها للسياق أو الشرعية التمثيلية، إذ تواجه هذه الخطابات الدعائية المضللة بمجهودات مؤسسات إعلامية ومراكز بحث وفكر رسمية وغير رسمية إلى بلورة “إجماع داخلي” قائم على شرعية تاريخية وقانونية، مدعوم بنقاش عمومي يعتمد على الوقائع لا على الشعارات، وينطلق من الميدان لا من غرف التحرير أو دوائر الضغط.
الواقع يكشف المفارقة
يسمح للمراسلين الأجانب بالتغطية الإعلامية في الأقاليم الجنوبية للمملكة، غير أن صحافة التضليل، المنخرطة في التعبير والرأي المضاد، لا زالت تواجه تحديات قانونية، تشمل الرقابة والملاحقات القضائية والاعتقالات، وعلى الجانب الآخر، تخضع مخيمات تندوف لسلطة غير ديمقراطية تديرها ميليشيا ارهابية، حيث تقيد حرية التعبير بشكل صارم، ويخضع الصحافيون للمراقبة المستمرة، سواء فيما يكتبونه، يسجلونه أو في ما تشاركه كاميراتهم، يصبح العمل الميداني في ظل هذا الواقع، أداة حاسمة لكشف التناقضات بين الخطاب والحقيقة، وقد عاينت الصحافية الإسبانية هذه المفارقة بنفسها، حين وقفت على الفرق الواضح بين بيئة خاضعة للتوجيه والسيطرة الصارمة بتندوف، وبين مشهد الحياة اليومية في الأقاليم الجنوبية المغربية، حيث رصدت مقاهي ومطاعم عالمية، شبابا ونساءا يتنقلون بحرية، ومؤسسات منتخبة بشكل ديمقراطي تعكس استقرارا وحيوية اجتماعية واقتصادية.
الميدان يفصل بين الحقيقة والتضليل
تتضاعف مسؤولية الصحافي في الميدان، إذ لا تقتصر مهمته على جمع الخبر، بل يتجاوز ذلك إلى مقارنته بالسياقات، وتحليله بعمق، ومساءلة مصادره بما يضمن المهنية والموضوعية، من هذا المنطلق، شدد المشاركون في اللقاء الدولي حول “صحافة الجودة والتربية على الإعلام” على أن جوهر الصحافة لا يقاس بلون الخطاب أو التوجه السياسي، بل يبنى على الالتزام بالمبادئ المهنية وأخلاقيات التحقق، ودعت منظمات دولية في السياق ذاته إلى رفع القيود المفروضة على حرية التعبير بمخيمات تندوف، والمطالبة بإطلاق سراح الصحافيين المعتقلين بالجزائر، تيسير مهام الإعلام الأجنبي للقيام بتغطيات ميدانية مستقلة، تستند إلى الواقع المباشر لا إلى التصريحات الرسمية وحدها، تتجلى أهمية الافتتاحية كونها توثق تجربة حية وتسلط الضوء على تطورات الصراع الإعلامي الموازي للصراع الجغرافي، كما تطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل الصحافة المستقلة، وقدرتها على التمييز بين الحقيقة والتضليل، في زمن لم تعد فيه الشعارات الخطابية كافية لفهم الوقائع، بل الميدان هو الفيصل.
صحافة الحقيقة في زمن التضليل
تبرز قضية الصحراء المغربية كإحدى الملفات التي تتطلب معالجة إعلامية تتجاوز اجترار الخطابات الجاهزة، في زمن تتراجع فيه الأصوات الحرة وتتزايد سطوة الدعاية المؤدلجة، تفرض على الصحافة المهنية أن تمارس دورها في مساءلة الروايات، وتفكيك سرديات التضليل، وتقديم صورة متوازنة تنبثق من الوقائع الميداني، لا من الشعارات المسيسة أو الأجندات المسبقة، فقد تجسد تجربة الصحافية الإسبانية في هذا السياق، انتقالا نوعيا من موقع التلقي السلبي بمخيمات تندوف إلى موقع التحري والملاحظة المباشرة بمدينة العيون، حيث شكلت رحلتها نموذجا لصحافة استقصائية مسؤولة تؤمن بأن الحقيقة لا تكتشف إلا بالتحقق، وأن السرد المهني يبدأ من الأرض، وتؤكد شهادتها أن الرواية الناقصة لا تقل خطرا عن الكذب الصريح، وأن الممارسة الصحفية الرصينة تقتضي رواية القصة كاملة، بعيدا عن الانتقائية، التي تقدم الجزء المجتزأ من الحقيقة على أنه الصورة الكاملة.
📰 اقرأ هذا المقال على Google News: اضغط هنا