المدرسة بين التربية والتنمية المجتمعية

Nov 17, 2025 /

المدرسة بين التربية والتنمية المجتمعية

الأخبار 24: حكيمة القرقوري

تستعيد الساحات المدرسية حيويتها، مع انطلاق كل موسم دراسي، فتتحول إلى فضاءات نابضة بالحركة، حيث يندفع الأطفال بخطى حماسية لمقاعدهم، محملين بفضول وابتسامات متجددة، لا يقتصر هذا الحدث السنوي كونه محطة زمنية تتكرر، بل تشكل لحظة مفصلية تعيد ترتيب إيقاع الأسر، وتضخ في البيوت نفحات جديدة من الأمل والتفاؤل، تلتقي فيها أحلام الصغار مع رهانات الكبار، لتتجسد التربية في أبهى صورها: استعداد للتضحية، وعزيمة لا تنطفئ لبناء مستقبل أكثر إشراقا.

المدرسة فضاء للنمو والمعرفة المتكاملة
ليست المدرسة فضاءا للجدران، أو فصول لتلقي المعرفة، بل حجر الأساس في المشروع المجتمعي بأسره، فكل قيمة تغرس، وكل مهارة تكتسب في فصولها، ليست فائدة فردية للتلميذ، بل استثمار طويل المدى في رأس المال البشري للمجتمع، حين يتعلم الطفل الانضباط والمثابرة والقدرة على التعامل مع الفشل، تتحول هذه الصفات لاحقا إلى مكونات فاعلة لمواطنة مسؤولة، ومجتمع متماسك، واقتصاد ديناميكي قادر على الابتكار، تصبح المدرسة بوابة استراتيجية للتنمية، حيث يلتقي التعليم مع أهداف التقدم الاجتماعي والاقتصادي، ويصبح الطالب منخرطا منذ صغره في منظومة القيم التي تدعم التقدم الجماعي، وايضا تمثل المدرسة مختبرا لتجربة التعددية والعيش المشترك، تجمع بين أطفال من خلفيات متنوعة، وتعلمهم أن الاحترام والحوار أساس تماسك الجماعة، وأن التنوع ليس تهديدا بل ثروة، يترجم هذا التعلم المبكر لاحقا إلى قدرة المجتمع على التكيف مع التغيرات، والتعاون لمواجهة التحديات، وصناعة حلول مبتكرة للمشاكل المشتركة، ويتضح أن نجاح المدرسة ونجاح المجتمع ليسا أمرين متوازيين، بل مترابطان، وأي إصلاح تربوي جاد يجب أن يضع التنمية المستدامة للمجتمع نصب عينيه، ويعتبر التعليم المحرك الرئيسي لبناء مجتمع أكثر إنصافا واستقرارا وابتكارا.

المدرسة فضاء للإنصاف وصناعة المعرفة
لا تعد المدرسة في جوهرها فضاءا لإجراء الامتحانات أو تصنيف التلاميذ بين ناجحين وراسبين، بل مشروع إنساني يقوم على مبدأ الإنصاف وضمان تكافؤ الفرص، تكمن قيمتها الحقيقية في قدرتها على جعل كل طفل يشعر بأن جهده محل تقدير، بعيدا عن أي تمييز طبقي أو ثقافي، تعد مساحة للاندماج الاجتماعي حيث يلتقي أبناء بيئات مختلفة، يتعلمون أن الحوار جسر للفهم، وأن الاحترام أساس للعيش المشترك، وأن التعددية ليست عبئا يثقل الجماعة، بل ثروة ترسخ لحمتها وتثري تجربتها التربوية، وبهذا المعنى تصبح مؤسسة لتربية الضمير الجماعي وفضاء لنقل المعرفة، إذ يقف المدرس في صميم هذه الرسالة، لا بوصفه ناقلا للمعلومات، بل باعتباره محفزا وملهما، فالمدرس ينجح في تحويل الدرس إلى رحلة فكرية، يوقظ فضول المتعلم، ويمنحه الثقة في أن الصعوبات ليست عائقا بل فرصة للنمو، فحين ينجح في ذلك يرسخ في ذاكرة طلابه أثراً عميقاً يتجاوز حدود الحصة الدراسية، يصبح اسمه مرتبطا باللحظة التي شغف فيها الطفل بالمعرفة، ويتحول إلى شاهد حي على أن التعليم، في أرقى معانيه، فعل إحياء للفضول الإنساني قبل أن يكون تراكم معلومات.

التعليم بين مسؤولية المدرس والتزام المجتمع
لا يقاس نجاح المدرسة بما تقدمه من برامج ومناهج فحسب، بل يتوقف بالأساس على وجود بيئة اجتماعية حاضنة تسمح للطفل بأن يجرب ويخطئ دون أن يشعر بالخوف أو الوصم، فالتعلم في جوهره عملية بحث وتجاريب، يبنى على المحاولة والخطأ بقدر ما يؤسس على الإنجاز والنجاح، وحين تتحول المدرسة إلى فضاء آمن تفتح أبواب المبادرة والإبداع، وتغدو رافعة حقيقية للطاقات الكامنة، لا مؤسسة إدارية تؤدي وظائفها الروتينية، ليست هذه المهمة مسؤولية المدرس وحده، وإن كان حجر الزاوية في العملية التربوية، فالمعلم، بما يحمله من رسالة تنويرية، يحتاج إلى اعتراف اجتماعي يليق بدوره، وإلى دعم مؤسساتي يصون مكانته وقدرته على أداء رسالته، وأيضا هنا يبرز دور المجتمع في أوسع معانيه: أسرة تحتضن التلميذ، وإعلاما يرسخ قيمة المعرفة، ودولة تؤمن بأن التعليم هو الاستثمار الأكثر استدامة، عندها يصبح التعليم قضية جماعية وورش مشترك، لا شأنا قطاعيا ضيقا، ويعاد الاعتبار للمدرسة باعتبارها قلب المشروع المجتمعي برمته.

المدرسة وعد متجدد ومسؤولية جماعية
تطرح أسئلة مع كل موسم دراسي جديد ليست استفسارات عابرة، بل في العمق محك حقيقي لمدى قدرة المدرسة على تجديد نفسها والاستمرار في أداء رسالتها، فلا تقاس التربية بمدى ما يُكتسب من معارف، بل بقدرة المؤسسة التعليمية على تكريس مبدأ المساواة وإعادة إنتاج قيم العدالة داخل المجتمع، حين يشعر التلميذ بأن مدرسته توفر له فرصة متكافئة، بصرف النظر عن خلفيته الاجتماعية أو وضعه الاقتصادي، تصبح المدرسة أكثر من فضاء للتعليم، تتحول إلى رافعة للاندماج ومختبر لإعادة صياغة علاقات المجتمع على أساس الإنصاف والاعتراف، لا يمكن في المقابل فصل مستقبل المدرسة عن وعي المجتمع بأهمية دعمها ورعاية مكانة المربي فيها، ليست حماية المدرسة ترفا ولا شعارا أخلاقيا، بل دفاع عن المعرفة ذاتها باعتبارها شرطا للتقدم وضمانة لتماسك الأجيال، وعندما يفقد التعليم جاذبيته أو يتحول إلى مصدر خوف بدلا من متعة، تتعرض علاقة الناشئة بالعلم إلى خلل عميق يهدد المستقبل برمته، لذلك،فإن المدرسة تمثل وعدا جماعيا لا يحق التفريط فيه، وعهدا متجددا بين الدولة والمجتمع والأسر والأجيال الصاعدة، يختزل في جوهره سؤالا واحدا: أي مستقبل نريد أن نصنعه عبر التربية؟.

شروط النشر:

يُرجى الالتزام بأسلوب محترم في التعليقات، والامتناع عن أي إساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات.
يُمنع تمامًا توجيه أي عبارات تمسّ الأديان أو الذات الإلهية، كما يُحظر التحريض العنصري أو استخدام الألفاظ النابية.

الأخبار 24 جريدة إلكترونية مغربية شاملة تتجدد على مدار الساعة ، تقدم أخبار دقيقة وموثوقة.
    نعتمد على إعداد محتوياتنا بالتحري الجاد والالتزام التام بأخلاقيات مهنة الصحافة المتعارف عليها دولياً، مما يضمن جودة الخبر ومصداقيته.

قلق دولي من تداخل الأنشطة الإرهابية أفاد دبلوماسي أوروبي مقيم…
×
Verified by MonsterInsights