حين يصرخ الصمت من الإنهاك الهادئ لصراع الداخل المنسي

Nov 18, 2025 /

حين يصرخ الصمت من الإنهاك الهادئ

بقلم : د حفيض عبدي

هناك صرخة لا تسمع في زحمة الحياة اليومية، صرخة يطلقها المنهكون بصمت، أولئك الذين أنهكتهم التزامات الآخرين، وغابت عنهم لحظات الإنصاف، لا تأتي الصرخة من الحلق، بل من عمق النفس، حيث يتراكم الألم والإحباط وتضيق الروح بما رحبت، إنها ليست شكوى عابرة، بل إعلان داخلي لانهيار وشيك.

العطاء استنزاف صامت للذات
يهيمن واقع في مشهد تتداخل فيه انتظارات مبالغ فيها ومطالب غير عقلانية، تدفع بعض الأفراد قسرا إلى أداء دور العطاء المفتوح بلا سقف، وكأنهم مُكلفون بخدمة دائمة لتأمين الراحة للآخرين، لا يمنحون حق التعب أو الشكوى، ولا حتى هامشا صغيرا للاعتذار أو التراجع، يتحولون تدريجيا إلى مصادر للطاقة النفسية والمعنوية، يلجأ إليهم عند الحاجة، لكن لا يلتفت إليهم عند الانكسار، يستهلكون بصمت مع مرور الوقت، تنهشهم ضغوط التوقعات من دون أن يتلقوا أبسط أشكال التقدير أو الاعتراف، إن المفارقة من يطالبون بكل شيء، ولا يملكون سعة الصدر لمنح القليل، هم ذاتهم من لا يحتملون منك لحظة رفض أو تعبير عن التعب، يرتبكون إن رفعت صوتك، ويستنكرون إن قلت “كفى”، يتوقعون منك الثبات، الصبر، والهدوء الأبدي، حتى لو كنت تغرق داخليا، يفرضون عليك دور “الحمل الوديع” في غابة تعج بالأقنعة، أقنعة تجيد الادعاء، لكنها تفتقر إلى أدنى درجات الإنصاف.

في زمن العبث لا تكن جزءا منه
لم يعد العبث تفصيلا هامشيا في المشهد اليومي، بل تحول إلى نمط متجذر يمارس بوقاحة ويفرض حضوره كأمر واقع، لقد تراجعت الحدود بين الصدق والزيف، واختلطت النوايا، حتى باتت الوجوه المألوفة تحمل قناعات مزيفة، والأحاديث اليومية مغموسة بنفاق ناعم يصعب كشفه من النظرة الأولى، لم يعد الإنسحاب وسط هذا التلوّن الاجتماعي، ضعف أو هروب، بل صار شكلا من أشكال الصمود الذاتي، فالبقاء وسط هذه البيئات المسمومة ترهق البصيرة، وتعرضك تدريجيا لفقدان الإحساس بالمعنى، لم يعد الابتعاد خيارا رفاهيا، بل هو ضرورة ملحة لحفظ التوازن النفسي، واستعادة البوصلة في زمن تلاشت فيه المعايير، ليس انسحابا من الحياة، بل انحياز واع للحقيقة، وخطوة أولى على طريق التعافي من عبث بات مقننا.

حين يتحول الصوت إلى مقدمة للانهيار
يلبس الصمت في مجتمعات تقدس “الصبر”، عباءة الحكمة، كثيرا ما يغفل الوجه الآخر لهذه المعادلة: ان الصمت المستمر أمام اللامعقول، ومجاملة الفوضى اليومية، ليس فضيلة، بل قد يكون بوابة لانفجار داخلي لا يمكن احتواؤه، لا يرسل السد حين يتشقق إشارات عبثية، بل يمهد لفيضان قد يجرف معه كل شيء، حين يكتب الإنسان انفعالاته ويتجاهل مؤشرات الإنهاك، يخاطر بما هو أبعد من اضطراب عابر، بداية انهيار تدريجي قد تطال جوهر وجوده: من طاقته النفسية، إلى أهدافه الشخصية، وحتى صلته بالمقربين منه، حين يتجاوز الصمت حده، لا ينتج السلام… بل يفرغ الحياة من معناها، ويحول التماسك الظاهري إلى عبء ثقيل ينذر بانفجار لا ينقذ بعده شيء.

إلى متى ستظل رهين الدوامة؟
يبرز في خضم التكرار الممل والاستنزاف الهادئ، سؤال مفصلي لا مفر من مواجهته: إلى متى ستظل تدور في حلقة فارغة، تستهلكك دون طائل، وتبقيك سجين إيقاع لا يشبهك؟ إنها الدوامة التي تتقن اجترار ذاتها، وتفرض عليك ثقلا لا يوازيه مردود، حيث يختلط الواجب بالعبث، وتضيع البوصلة بين ما تريده حقا، وما ينتظر منك أن تكونه، لا يأتي هذا التحرر من المسار على هيئة منحة من الآخرين، بل كقرار سيادي لا يؤخذ تحت الضغط، بل ينتزع بالإرادة، آن الأوان لإعادة تعريف الذات خارج قوالب التكرار، وكتابة سردية جديدة تتصدرها أنت، لا الآخرون… سردية يكون عنوانها الأول: “أنا أختار مساري”.

شروط النشر:

يُرجى الالتزام بأسلوب محترم في التعليقات، والامتناع عن أي إساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات.
يُمنع تمامًا توجيه أي عبارات تمسّ الأديان أو الذات الإلهية، كما يُحظر التحريض العنصري أو استخدام الألفاظ النابية.

الأخبار 24 جريدة إلكترونية مغربية شاملة تتجدد على مدار الساعة ، تقدم أخبار دقيقة وموثوقة.
    نعتمد على إعداد محتوياتنا بالتحري الجاد والالتزام التام بأخلاقيات مهنة الصحافة المتعارف عليها دولياً، مما يضمن جودة الخبر ومصداقيته.

قلق دولي من تداخل الأنشطة الإرهابية أفاد دبلوماسي أوروبي مقيم…
×
Verified by MonsterInsights