ندوة وطنية حول قانون العقوبات البديلة
مليكة بوخاري
نظم المركز الوطني للدراسات والأبحاث القانونية والقضائية، بشراكة مع مجلة محاكمة، ندوة علمية وطنية تحت عنوان: “قانون العقوبات البديلة: التجليات ومظاهر القصور”، وذلك يوم الجمعة 13 يونيو 2025، بقصر الحفلات والمؤتمرات المنصور بمدينة القصر الكبير.
آفاق القانون بين الطموح والتحدي
شكلت هذه الندوة محطة فكرية بارزة لفتح نقاش علمي معمق حول قانون العقوبات البديلة، حيث التقى الطموح التشريعي بالتحديات الواقعية التي تفرضها التحولات المتسارعة في النظام الزجري المغربي. وقد مثل اللقاء مناسبة لتشخيص الإكراهات القائمة، واستشراف آفاق التطبيق العملي لهذا القانون ضمن رؤية تروم إرساء عدالة أكثر نجاعة وإنصافا.
افتتاح برؤية تشريعية
افتُتحت أشغال الندوة بتلاوة آيات بينات من الذكر الحكيم، أعقبتها ترديد جماعي للنشيد الوطني، في لحظة رمزية جمعت بين روحانية المناسبة ووطنيتها، وفي كلمته الترحيبية، أبرز رئيس المركز الوطني للدراسات والأبحاث القانونية والقضائية أهمية هذا اللقاء العلمي في مواكبة الدينامية التشريعية التي يشهدها الحقل الجنائي، معتبرا أن النقاش العلمي الجاد يشكل رافعة لتجويد القوانين وضمان حسن تفعيلها، تلتها كلمة افتتاحية ألقاها مدير مجلة محاكمة، شدد فيها على ضرورة إعادة النظر في النموذج الزجري التقليدي، والانفتاح على البدائل الممكنة التي من شأنها أن تحقق عدالة أكثر فعالية وإنسانية.
تسيير تفاعلي
أشرف الأستاذ بلال العروسي، المحامي والباحث في العلوم الجنائية والأمنية، على تسيير أشغال الجلسات، حيث أضفى على الندوة طابعا تفاعليا مميزا، ساهم في خلق دينامية فكرية بناءة، عززت من عمق النقاش بين المتدخلين وساهمت في توسيع آفاق التفاعل مع مختلف محاور الموضوع.
رهانات العدالة الحديثة
استهل الأستاذ النقيب نور الدين الموسوي أشغال الندوة بمداخلة افتتاحية تناول فيها الرهانات الاستراتيجية التي يطرحها قانون العقوبات البديلة، مشددا على ضرورة تكييف المنظومة الزجرية مع التحولات التشريعية الحديثة التي تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين فعالية العدالة وصون حقوق الأفراد والمجتمع، وأكد أن المرحلة الراهنة تفرض مراجعة شاملة للسياسات العقابية التقليدية، بما يواكب الدينامية القانونية ويستجيب لمتطلبات العدالة المعاصرة.
فلسفة القانون وفعاليته
قدم الدكتور نور الدين العمراني، أستاذ التعليم العالي بكلية الحقوق بمكناس، قراءة تحليلية رصينة في مضامين قانون العقوبات البديلة، مبرزا أن فهم هذا النص التشريعي لا يكتمل إلا باستحضار خلفياته التأصيلية المتجذرة في فلسفة العقاب، إلى جانب أبعاده الوظيفية المرتبطة بمدى نجاعته العملية في سياق العدالة الجنائية، مؤكدا أن التمفصل بين البعدين التأصيلي والتطبيقي يشكل مدخلا أساسيا لتقييم فعالية القانون وجدواه ضمن المنظومة الزجرية الجديدة.
مداخلة بناءة وآفاق الإصلاح
اختار الدكتور عز الدين الماحي، المحامي العام بمحكمة النقض ورئيس تحرير مجلة محاكمة، تناول قانون العقوبات البديلة من منظور نقدي موضوعي، متسائلا عن مدى جاهزية المنظومة القانونية لاستقبال هذا “المولود التشريعي الجديد”، مؤكدا على حسن النية في تطبيق القانون، وذلك يتطلب تجاوز حدود النقد السلبي، وتبني مقاربة إصلاحية بناءة تركز على معالجة النواقص واقتراح الحلول العملية التي تساهم في إنجاح هذا المشروع التشريعي.
تحديات التطبيق القضائي
سلط الضوء الدكتور شريف الغيام، نائب الوكيل العام لدى محكمة الاستئناف بتطوان، في مداخلته على الجانب العملي لتطبيق قانون العقوبات البديلة، متوقفا عند الإشكالات الواقعية التي قد تعيق تفعيل السلطة التقديرية للقضاة في هذا السياق، وتساءل عن مدى قدرة الجهاز القضائي على الاستجابة لروح هذا القانون، في ظل غياب بعض المقومات البنيوية الأساسية، وفي مقدمتها تأهيل البنيات التحتية وتوفير الدعم المؤسساتي الكفيل لضمان تنفيذ فعال وعادل لمضامينه.
رؤية الوزارة وآليات التنزيل
قدم الدكتور أيوب أبو جعفر، رئيس قسم السياسة الجنائية بوزارة العدل، مداخلة وازنة استعرض فيها رؤية الوزارة بخصوص آليات تفعيل قانون العقوبات البديلة، مشيرا إلى أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية أعد دليلا عمليا ييسر فهم مقتضيات هذا القانون وتطبيقه على أرض الواقع، كما أشار إلى صدور مجموعة من التوصيات عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، تهم إزالة اللبس، وتوحيد الممارسات داخل الجسم القضائي بما يضمن التنزيل السليم والفعّال لهذا الإطار التشريعي الجديد.
وفاء وتقدير لمسيرة من العطاء
اختتمت الندوة بتوزيع شواهد على المتدخلين، في جو يسوده التقدير والاعتراف بالجهود المبذولة، وعرفت اللحظة الختامية محطة إنسانية متميزة، تم خلالها تكريم النقيب نور الدين الموسوي، عرفانا بمسيرته المهنية الحافلة وعطائه المتواصل في خدمة العدالة ومهنة المحاماة، شكل هذا التكريم لحظة وفاء وامتنان، وأيضا تعبيرا رمزيا من جيل قانوني واعد تجاه أحد الرموز البارزة التي ساهمت على مدى عقود في ترسيخ مبادئ دولة الحق والقانون.
رهانات العقوبات البديلة
تندرج هذه الندوة ضمن سياق وطني يتسم بإعادة تقييم شامل للنموذج العقابي المعتمد، حيث يُطرح قانون العقوبات البديلة كخيار استراتيجي يراهن عليه صناع القرار لإرساء عدالة أكثر فاعلية وإنسانية، من خلال تقليص الاعتماد على العقوبات السالبة للحرية، كشفت المداخلات بوضوح وعمق، أن نجاح هذا الورش التشريعي يظل رهينا بإرادة سياسية حقيقية، وبيئة مؤسساتية وتشريعية قادرة على احتضان هذا التحول النوعي، ويتطلب ذلك منظومة متكاملة تبدأ بتأهيل الكفاءات البشرية، مرورا بإرساء بنية تحتية قانونية ومجتمعية داعمة، وصولا إلى ترسيخ ثقافة قانونية جديدة تؤمن بأن العدالة لا تختزل في العقوبة، بل تتحقق أيضا من خلال تدبير عقلاني وهادف.














