هل تحول خطاب النظام الجزائري؟
مليكة بوخاري
يواصل النظام الجزائري في عالم يشهد تحولات جيوسياسية متسارعة، ويعاد فيه رسم خرائط التحالفات الدولية على أساس المصالح المتبادلة لا الشعارات الأيديولوجية، التمسك بخطاب سياسي تقليدي تجاوزته المرحلة، فبينما يتجه العالم نحو منطق براغماتي مرن، تصر الجزائر على استحضار أدبيات الحرب الباردة، متشبثة بمفاهيم “عدم الانحياز” و”حسن الجوار”، في وقت تكتشف فيه مواقفها الميدانية عن نزعة عدائية ثابتة للمغرب، يبدو هذا الخطاب المتخشب في ظاهره مبدئيا، لا يعدو أن يكون غطاءا سياسيا لإخفاقات داخلية متراكمة، يسعى من خلاله النظام الجزائري إلى تصدير أزماته إلى الخارج، وإعادة إنتاج مشروعيته المتآكلة عبر مواقف متشنجة تخاطب العاطفة الوطنية، بدل مواجهة الاستحقاقات الحقيقية للإصلاح والتنمية، وبدل الانخراط في دينامية إقليمية بناءة، تفضل النظام الجزائري الاحتماء بخطاب رمزي تجاوزته المتغيرات الدولية، ما يضعه في عزلة متزايدة عن الواقع الجديد للعلاقات الدولية المعاصرة.
الخطاب بين الإنكار والعزلة
يسعى الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في إطلالة إعلامية جديدة، نفي ما يعتبره “عزلة دولية” تعاني منها بلاده، مؤكدا أن الموقف من قضية الصحراء المغربية يندرج ضمن ثوابت السياسة الخارجية الجزائرية، ولا يخضع للمراجعة أو التعديل، غير أن هذا الخطاب، وإن بدا حازما في ظاهره، يصطدم بوقائع ميدانية ومعطيات دبلوماسية متراكمة تفند مزاعمه، وتؤشر بوضوح إلى انكماش الدور الجزائري إقليميا ودوليا، وتراجع تأثيره في مؤسسات القرار الجماعي، مقابل صعود متسارع للدبلوماسية المغربية، كان النظام الجزائري يراهن على التحالفات التي تآكلت بشكل ملحوظ، وحضوره في المحافل الدولية بات باهتا، بعدما تحول دعمه المستمر للبوليساريو إلى عبء سياسي وأخلاقي يصعب الدفاع عنه، في سياق عالمي تجاوز ثنائيات الحقبة الكولونيالية، وتغيرت فيه معايير الشرعية والدعم الدولي.
من مبدأ عدم التدخل الى واقع التدخل
تبدي متابعة الخطاب الرسمي الجزائري اتساع الفجوة بين المبادئ المعلنة والممارسات الواقعية، إذ ترفع الجزائر شعار عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، بينما لا تتردد في مهاجمة سياسات بلدان ذات سيادة، وتغذية نزاع إقليمي مفتعل، واستثمار الدولة في كيان لا يحظى بأي اعتراف قانوني راسخ ولا بتمثيل فعلي على الأرض، حيث بدأت تتنامى داخل الجزائر في موازاة هذا التوجه، أصوات سياسية تحذر من الاستمرار في هذه الخيارات الخارجية، التي تأتي على حساب استحقاقات داخلية أكثر إلحاحا، كالتنمية الاقتصادية، والاستقرار الاجتماعي، والعدالة المجالية، وتشير تصاعد هذه الأصوات رغم محدوديتها، إلى وعي متنام بأن الرهانات الخارجية لا يمكن أن تكون بديلا عن مشروع وطني داخلي متكامل.
عقدة سياسية لنظام يتهرب من واقعه
عجز النظام الجزائري منذ لحظة الاستقلال،عن بلورة مشروع وطني جامع قادر على توحيد مكونات المجتمع حول رؤية مستقبلية متماسكة، اختار بدلا من ذلك خلق “عدو خارجي” دائم يجتمع حوله الرأي العام، ويعلق عليه إخفاقاته البنيوية العميقة، وفي هذا السياق، تحوّل ملف الصحراء المغربية من قضية إقليمية إلى ركيزة أساسية في استراتيجية البقاء السياسي للنظام، بل إلى أداة لتصريف التوترات الداخلية وتجنب المواجهة مع أسئلة الهوية الوطنية المؤجلة، في المقابل، يواصل المغرب ترسيخ حضوره القاري والدولي من خلال سياسات واقعية، ومبادرات تنموية ودبلوماسية مدروسة، كرسته كفاعل إقليمي موثوق وشريك دولي يحظى بالاحترام، مستندا إلى رؤية تستشرف المستقبل وتضع الاستقرار والتكامل في صلب أولوياتها، بعيدا عن متاهات الأيديولوجيا والشعارات القديمة البالية، فلا يزال النظام العسركي الجزائري حبيس خطاب سياسي منهك، يستنزف طاقاته ولا يفضي إلا إلى مزيد من العزلة والانكماش في محيط إقليمي ودولي يتحرك بسرعة، وإن كانت السلطة الجزائرية تطمح فعلا إلى تجاوز أزمتها البنيوية، فعليها أن تراجع مقارباتها الخارجية، وتعيد ترتيب أولوياتها الوطنية على أسس براغماتية تراعي التحولات الراهنة، لن يمر طريق الاستقرار عبر مناجم الحديد أو مناورات الحركات أو الجماعات المسلحة، بل عبر مصالحة حقيقية مع الذات، وانفتاح شجاع على الفضاء المغاربي والإفريقي الذي لم يعد ينتظر من يتردد أو يراوح مكانه.














