أحمد التوفيق يسلط الضوء على الفهم الخاطئ والواقع
وجه أحمد التوفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية المغربي، يوم 3 دجنبر 2024، رسالة إلى عبد الإله بنكيران، رئيس الحكومة السابق، محذرا من سوء الفهم الذي قد يطرأ حول تصريحاته المتعلقة بالدين والعلمانية، التي تحمل طابعا شخصيا وموضوعيا في آن واحد، تعكس قلق أحمد التوفيق العميق بشأن التوجهات السياسية الحالية .
سوء الفهم والتفسير
بدأت الرسالة بالتأكيد على أهمية التبيّن قبل نسب أي أقوال، حيث يشير التوفيق إلى أن بنكيران ذكر كلامه في تجمع حزبي، مما أدى إلى سوء فهم واسع النطاق، ويؤكد التوفيق أنه لم يتحدث عن الدولة بشكل علماني، بل أكد على كون المغرب دولة “إمارة المؤمنين”، وهو مفهوم يتجاوز التعريفات السطحية للدولة العلمانية.
الدفاع عن الهوية الإسلامية
استعرض التوفيق في رسالته كيف ننقل عن شخص أو مجموعة لا يمكن أن تغير من الحقيقة التاريخية والدينية للمغرب، وأشار إلى أن الأئمة والقيم الدينية لا تقبل التبديل وفق الآراء أو التأكيدات السياسية، مما يتطلب من القادة السياسيين التحلي بالمسؤولية عند تناول مواضيع الدين.
انتقادات لبنكيران
وأضاف التوفيق في عرضه لبنكيران كونه رئيس حزب سياسي عصري، مشيرا إلى أن النموذج السياسي الذي يمثله يحمل بعض السمات المقتبسة من الأنظمة الغربية، مشيرل إلى أن بنكيران، خلال فترة رئاسته للحكومة، أعد قوانين تتماشى مع مبادئ عقلانية تعتبر جزءا من السياق العلماني.
السياق المغربي والعلمانية
واصل التوفيق مناقشة تعقيدات مفهوم العلمانية، مشيرا إلى أن أشكالها تتباين حسب السياقات الثقافية والتاريخية، وأكد أن المغرب يمتلك نموذجا فريدا يحافظ على القيم الدينية من خلال نظام إمارة المؤمنين، مما يتيح إمكانية التوفيق بين الدين والسياسة بطريقة تتجنب صراعات الهوية.
دعوة للحوار
في ختام رسالته، دعا التوفيق بنكيران إلى التواصل المباشر، مؤكدا على أهمية الحوار وتبادل الآراء بدلا من الاعتماد على الشائعات والتفسيرات المتسرعة، موضحا أن رسالته ليست مجرد شكوى، بل هي دعوة للتفكير والتأمل في مستقبل مشترك، فرسالة أحمد التوفيق دعوة للتفكر في العلاقة بين الدين والسياسة بالمغرب، تبرز الحاجة إلى فهم عميق وشامل لهذه العلاقة بعيدا عن الاستقطاب والجدل السطحي، إن الحوار المفتوح والشفاف يمثل السبيل لترسيخ الهوية المغربية الأصيلة مع احترام القيم الإنسانية العالمية، مما يساهم في بناء مجتمع متماسك ومتفاهم.
وفي ما يلي نص الرسالة الكاملة :
رسالة من أحمد التوفيق إلى عبد الإله ابن كيران
السيد الرئيس
شكوت بثي إلى الله وآثرت أن تطلع عليه. بلغني أنك ذكرت كلامي في تجمع حزبي، ونسبت إليّ ما فاتك فيه التبيّن وجانبك اليقين. ذكرت ما فهم منه الناس أنني قلت إن الدولة في المغرب علمانية، وأنا لم أذكر الدولة؛ لأن الدولة دولة إمارة المؤمنين، وأنت تعرف أنني، بفضل الله، خديماً في باب تدبير الدين منذ أزيد من عقدين من الزمن.
السيد الرئيس
لقد ألزمت نفسك بما لا يلزم، لأن مجرد كلام شخص أو حتى آلاف الأشخاص، لا يفيد في تغيير الحقيقة في مثل هذا الأمر الخطير. أمر لا يحتاج إلى من ينتصب “للدفاع” عنه في المجامع، وأقصد أمر النسبة للدين أو التعلل منه. فالأئمة لها صبغتها ولا تبديل لهذه الصبغة بزعم أو رأي أو تأكيد أو نفي.
أيها الأستاذ الرئيس
كان عليك وقد نُقل لك ما قيل، أو سمعت كلمات “عجلى” قيلت في البرلمان، كان عليك أن تكلمني وتسألني ماذا قلتُ وما ذا أردت أن أقول، وحيث إنك لم تفعل فإنك قد استعليتَ فحاديتَ بالبهتان.
أيها الرئيس
إن الشخص الذي حاورته في الموضوع مسؤول نبيه يعرف المغرب، وهو متدين في نفس الوقت، ولكنه يعيش في نظام لا يرى الدين حاجة جوهرية للإنسان يجب أن تحميها الدولة، ولكل وجهة هو موليها.
أيها الرئيس
إنك رئيس حزب سياسي عصري، والحزب السياسي العصري مقتبس من نظام غربي علماني، وإنك منتخب على أساس تكافؤ أصوات الناخبين بغض النظر عن معتقداتهم وسيرهم، وهذا الأمر مقتبس من نظام غربي علماني. وإنك عندما كنت رئيساً للحكومة قد اشتغلت على نصوص قوانين تخدم المصلحة العقلانية وتُعرض على تصويت البرلمان، وهذا أمر مقتبس من نظام غربي علماني، لأنك لو أردت أن تستشير شيوخ طائفة لأضعت كثيراً من الوقت بسبب خلافاتهم، وقد قمت بتمرير عدد من القوانين بمرجعية وفاق أو قرارات دولية، وهذا الشأن مقتبس من نظام غربي علماني. وقد كان عليك كرئيس للحكومة أن تقتنع بالحريات الفردية كما ينص عليها الدستور وتحميها قواعد النظام العام، وهذا أمر مقتبس من سياق غربي هو سياق العلمانية، وكان من مراجعاتك أيها الرئيس كل ما يتعلق بالمواطنة، وهو مرجع مقتبس من سياق تاريخي علماني، وإن كنا نجده له بعيديا، التفاصيل في تراثنا الديني.
هناك عشرات من الظواهر الأخرى دخلت في حياتنا من اللقاء بهذا النظام وتتبناها بعنوانها الذي هو “التقدم” دون أن نحس بأي غضاضة، ولكي نفهم قبل أن نتوقف عند ما لنا وما لهم يجب أن نظل مستحضرين أن تاريخ الناس، كل الناس، جارٍ في كل الأحوال بقضاء الله وقدره، وسننه، سبحانه، فضاء مفتوح بين سائر في الأرض ونظر.
يجري كل ما ذكر في سياق هذه المملكة في أمن وانسجام لأن إمارة المؤمنين تحمي كليات الدين وقطعيّاته، ولولا ذلك لعشنا العلمانية التي لا مرجع فيها سوى الأغلبية، وأنت كنت مضطراً إلى تحالف حكومي، ولا يفترض أن يكون حلفاؤك فيه على نفس الاقتناع أو الفهم للدين، وهذه خلطة أخرى “طيبة” متأصلة في مطبخ العلمانية.
الواقع أننا نعيش في أوضاع مركبة ليست لنا لا الثقافة ولا الإرادة الصادقة للتميز بقصد فهمها، وقع هذا منذ أن دخل حرف جرنا إلى جملة نظام صنعه الغير كما صنع أسلحة الغلبة، وكان بإمكاننا لو استطعنا أن نغزوه بالأخلاق. أما عدم التميز فهو قصور في النصج السياسي الذي لا يأتينا بالتستر والنفاق.
هكذا أيها الرئيس أقنعتُ محاوري بأن كل القيم العقلانية المتعلقة بالاجتهاد، في حرية، هي التي عليها العمل في سياقنا، سياق حرية الدين التي هي أصل في الإسلام، وإنما النعمة عندنا أن إمارة المؤمنين تحمي تلك القيم المجتمعية من جهة الدولة وتحمي الدين بتيسير العبادات كمطلب أساسي لأغلبية الناس، وهو ما يتوافق مع جوهر تلك القيم العقلانية إلى أقصى حدود الاجتهاد.
السيد الرئيس
إن الكلام عن العلمانية (Secularism) قد لا يحسنه كل “زعيم”، لأنه مفهوم معقد في الفلسفة السياسية، لم ينته فيه الجدال حتى في بيئته، فهناك لائكية فرنسا (Laïcité) التي جاءت في سياق تاريخ العلاقة المتوترة بين الكنيسة والمجتمع الذي تخففت عنه الثورة الفرنسية، وهي حالة خاصة، وهناك العلمانية التي تأخذ فيها الدولة حاجات الناس الدينية بعين الاعتبار، وهي موجودة في دول غربية أخرى، وأذكر أنني سألت في عام 2008 (انطلاقاً من نفس الاهتمام)، سألت السيد سفير ألمانيا في المغرب عن الرسم الذي تجمعه الدولة رسمياً من الناس للإنفاق على الدين، ففاجأني بأن مبلغه، بالنسبة لعام 2006، هو ثمانية مليارات ونصف مليار أورو.
السيد الرئيس
ما زلت تذكر، ولا شك، أنني عشت معك أزمة رحيل الأستاذ عبد الله باها. وتذكر أنني قلت لك إن الأحوط في السياسة في بيئهن العامل فيها على النزاهة والنظافة للناس ويقنعهم بإنجازاته بدل أن يلجأ إلى تعريض الدين لضعف الإنسان بتحويله إلى شعارات لمجرد الغواية أو ما نسميه بالاستقطاب. والحالة أن الدين هو الأخلاق بكل تجلياتها ومستوياتها، ابتداءً من النوايا الصادقة، وهذا فهم فطري عند الناس. لذلك تجد بعض أهل ديننا يعجبون بأخلاق بعض أهل بلاد العلمانية. وقد كان جوابك، رداً على “النصيحة”: يظهر لي أن هذا هو ما ينبغي.
السيد الرئيس
إن السياق المغربي بخلفياته التاريخية ومؤهلاته الحاضرة مبشر بإمكان بناء نموذج يحل عدداً من المشاكل الفكرية للأمة وهي متعثرة في أوحال التخبط في العلاقة بين الدين والسياسة، ولكن الأمر يتوقف على توحيد الله بدل إطلاق العنان للأنانية وهي الشرك الخفي. والحالة أن الله الذي أجرى ويجري أحوال الناس قد أرشدنا إلى فتح البصائر على هذا المشترك الإنساني في سنن الصلاح والفساد.
السيد الرئيس
نفثت بهذه الشكوى لا لأقنعك، وأنت تعرف أنني لا أريد على المتقولين، بل القصد أن يسمعها “السميع”، وتكون أنت من الشاهدين. وعسى أن يسمعها بعض من سمعوا تشهيرك فيفهموا.
الرباط في فاتح جمادى الثانية 1446
الموافق لثالث دجنبر 2024.
أحمد التوفيق