تركيا من نهضة واعدة إلى عزلة
حكيمة القرقوري
كانت تركيا بداية الألفية تمثل مشروعا واعدا للنهضة، بقيادة رجب طيب أردوغان، حيث تدخل اليوم عقدها الثالث مثقلة بأعباء من الأوهام الاستراتيجية والعزلة الإقليمية المتزايدة، فضلا عن الضغوط الداخلية المتصاعدة، إذ كان أردوغان، رمزا للنهضة التركية وقائدا للعالم الإسلامي، يجد نفسه حاليا محاطا بمجموعة من التحولات الجذرية في محيطه، أبرزها الانهيار المفاجئ للنظام السوري، وعودة دونالد ترامب إلى رئاسة الولايات المتحدة، بالإضافة إلى انطلاق مفاوضات السلام الروسية الأوكرانية بالسعودية بدلا من تركيا، مما يعكس استبعاد تركيا من إعادة تشكيل موازين القوة في المنطقة.
تراجع نفوذ تركيا في الملف السوري
شكل فرار بشار الأسد من سوريا في فبراير، سيطرة المعارضة السورية على العاصمة، ضربة استراتيجية قاسية لأنقرة التي كانت تأمل أن تكون اللاعب الرئيسي في الملف السوري. وقد كشفت التطورات الأخيرة في دمشق عن النفوذ التركي، حيث أصبحت المعارضة السورية التي تدير المرحلة الانتقالية اليوم تعمل ضمن تحالف دولي تقوده واشنطن والرياض وباريس، دون الحاجة إلى الدعم التركي، التي كانت قبل سنوات تستضيف قيادة الائتلاف السوري وتفاوض على مصير إدلب وتستغل ورقة اللاجئين للضغط على أوروبا، وجدت نفسها اليوم خارج معادلة دمشق الجديدة، بعد أن تخطتها القوى الحليفة قبل الأعداء.
تركيا مستبعدة من مفاوضات السلام
كانت تركيا تتوقع أن تستضيف محادثات السلام بين موسكو وكييف كما حدث في 2022، لكن عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أعادت ترتيب الأمور بشكل جذري. ترامب، الذي أعاد تعريف أولويات السياسة الخارجية الأمريكية بأسلوب صدامي واستراتيجي، اختار المملكة العربية السعودية كمقر حصري لمفاوضات وقف إطلاق النار بين روسيا وأوكرانيا، مما يعكس تحولاً كبيراً في توزيع الأدوار الإقليمية. الرياض، التي أصبحت تلعب دور الوسيط الجيوسياسي بثقة، انتزعت هذا الامتياز من أنقرة، التي لطالما اعتبرت نفسها جسرًا بين الشرق والغرب. وبهذا، وجدت تركيا نفسها مستبعدة من أحد أبرز الملفات الجيوسياسية في العالم، ليس فقط بسبب تقصيرها الدبلوماسي، بل أيضا نتيجة لانهيار الثقة الدولية في نوايا ومصداقية النظام.
تراجع مكانة تركيا وأزمة داخلية
يتزامن تراجع مكانة أنقرة الإقليمية مع أزمة داخلية غير مسبوقة، حيث يعاني الاقتصاد التركي من تضخم متزايد وانهيار مستمر للعملة الوطنية أمام الدولار، ومغادرة الاستثمارات الأجنبية، إضافة إلى الحملة المستمرة على الصحافة المستقلة واعتقال قادة المعارضة وتهميش القضاء، مما ساهم في خلق أجواء من القلق العام، هذا الوضع يتجلى في تفاقم الاحتقان الاجتماعي في المدن الكبرى، حيث أصبحت الانتخابات البلدية المقبلة، التي كانت تعتبر سابقا نقطة قوة لحزب العدالة والتنمية، مهددة بأن تكون بداية النهاية السياسية للحكم.
تراجع تأثير خطاب أردوغان وأزمة متفاقمة
تبدو هذه البيئة المتأزمة الحالية أنها أثرت سلبا على خطابات القومية والدينية لأردوغان، الذي فقد فعاليته في تحفيز المواطنين، كما كان في السابق. فبدلا من التأثر بالحديث عن “أمة قوية ومؤامرات خارجية”، أصبح المواطنون يبحثون عن حلول ملموسة لمشاكل الخبز والطاقة والبطالة، لهذا توحدت المعارضة، في تحالفات مرنة، تقدم بديلا واقعيا ومدنيا، بينما تزايدت انقسامات قواعد حزب العدالة والتنمية أكثر من أي وقت مضى، ما يعكس الحديث داخل الحزب عن ضرورة الانتقال الداخلي للقيادة، وأن التصدع لم يعد محصورا في الخارج، بل أصبح يتغلغل في صميم النظام السياسي.
تراجع الثقة السياسية
تواجه تركيا عزلة متزايدة على الساحة الدولية، حيث فقدت أوروبا الثقة في النظام التركي وأوقفت جميع مفاوضات الانضمام. هناك شكوك متزايدة حول التزام تركيا بتحالفاتها، خاصة بعد شراء أنظمة الدفاع الروسية وامتناعها عن الانخراط الكامل في العقوبات الغربية ضد موسكو. كما تراجعت العلاقات مع موسكو، بعد أن فقدت تركيا مكانتها كوسيط موثوق في الأزمة الأوكرانية وفي العالم العربي، رغم التقدم السريع في العلاقات مع دول الخليج، فإن الثقة السياسية الحقيقية لم تستعاد بعد، بسبب مواقف تركيا السابقة الداعمة للجماعات الإسلامية العابرة للحدود.
تركيا بين الماضي والحاضر
لم تعد تركيا في ظل هذه المتغيرات، ذات تأثير يذكر في معادلات التوازن الإقليمي أو في صراعات النفوذ القوي أو رد فعل، بل أصبحت في موقف تنتظر ما يقرر في الرياض وواشنطن ودمشق لتحدد كيفية تكيّفها مع الأوضاع الجديدة، فقد انتهت تلك الأيام التي كانت فيها أنقرة ترسم مستقبل سوريا وتفاوض باسم أوكرانيا، وتستفيد من التناقضات بين موسكو وبروكسل، أضحت الآن خارج المسرح، وصارت نهاية أردوغان، التي بدت قبل سنوات بعيدة، واضحة وملموسة فلم تصبح اليوم نهاية فرد، بل نهاية لنموذج حكم جمع بين الشعبوية والسلطوية، والخطاب الإسلامي والتدخلات الخارجية، والوعود الاقتصادية والرقابة القمعية، في زمن التغيرات الكبيرة، فالتاريخ لا يرحم أولئك الذين يغفلون عن تأثير التحولات، ولم يعد أردوغان زعيما إقليميا، بل أصبح قائدا لدولة على الهامش، يطارده ماضيه التوسعي ويحيط به حاضر من التراجع.